فصل: أَمَّا الَّذِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وَمَا لَا يَحْظُرُهُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وَمَا لَا يَحْظُرُهُ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ، وَنَوْعٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ.

.أَمَّا الَّذِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ:

فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى اللِّبَاسِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ، وَقَضَاءِ التَّفَثِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ.

.ما يَرْجِعُ إلَى اللِّبَاسِ:

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْمُحْرِمُ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ جُمْلَةً، وَلَا قَمِيصًا وَلَا قُبَاءَ، وَلَا جُبَّةً، وَلَا سَرَاوِيلَ، وَلَا عِمَامَةً، وَلَا قَلَنْسُوَةً، وَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسُهُمَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرْبُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَخِيطِ، فَسُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَعَدَلَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ، وَأَجَابَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، وَهَذَا مَحِيدٌ عَنْ الْجَوَابِ، أَوْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَذْكُورٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَضْمَرَ.
(لَا) فِي مَحِلِّ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ لَا تَارَةً تُزَادُ فِي الْكَلَامِ، وَتَارَةً تُحْذَفُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ: لَا تَضِلُّوا فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا فَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.
وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ غَرَضَ السَّائِلِ وَمُرَادَهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ بَيَانَ مَا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ إحْرَامِهِ، إمَّا بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ بِالْوَحْيِ فَأَجَابَ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فَأَجَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} سَأَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ الثَّمَرَاتِ.
فَأَجَابَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مُرَادَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يَرْزُقَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ دُونَ الْكَافِرِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ فِي ضَمِيرِهِ كَذَا هَذَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمَخِيطَ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُهُ دَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَيْدٌ عَنْ الْجَوَابِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَيْدُ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَيْدِ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ.
وَالثَّانِي: مِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ حُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَهَاهُنَا لَا يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ أَصْلًا، وَفِيهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ بِالْحَرِّ، أَوْ الْبَرْدِ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي مِثْلِهِ إطْلَاقًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إنَّ جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ النَّهَارِ لِلْكَسْبِ، وَطَلَبِ الْمَعَاشِ إذْ لابد مِنْ الْقُوتِ لِلْبَقَاءِ، وَكَانَ جَعْلُ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ تَعْيِينًا لِلنَّهَارِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَأَمَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ.
وَالتَّنْصِيصُ هاهنا فِي مَحِلِّ النَّهْيِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالتَّرَفُّهِ فِي اللُّبْسِ، وَحَالُ الْمُحْرِمِ يُنَافِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِسُوءِ حَالِهِ إلَى مَوْلَاهُ يَسْتَعْطِفُ نَظَرَهُ وَمَرْحَمَتَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ سَيِّدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ.
فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، بِأَنْ اتَّشَحَ بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالتَّرَفُّهِ فِي اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ.
وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الِارْتِدَاءِ، وَالِاتِّزَارِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ فِي حِفْظِ الرِّدَاءِ، وَالْإِزَارِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ.
وَلَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا لُبْسُ الْمَخِيطِ، إذْ اللُّبْسُ هُوَ التَّغْطِيَةُ وَفِيهِ تَغْطِيَةُ أَعْضَاءٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَخِيطِ مِنْ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالظَّهْرِ وَغَيْرِهَا فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ هُوَ: اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَذَلِكَ فِي الْقَبَاءِ، الْإِلْقَاءُ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ مَعَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ، وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهَ فِي اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ إلْقَاءَ الْقَبَاءِ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ يُشْبِهُ الِارْتِدَاءَ وَالِاتِّزَارَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ إلَى تَكَلُّفٍ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَهُوَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ مُعْتَادٌ يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ وَالتَّرَفُّهُ فِي اللُّبْسِ، وَيَقَعُ بِهِ الْأَمْنُ عَنْ السُّقُوطِ.
وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَزَرَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ فَقَدْ تَرَفَّهَ فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ.
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ رِدَاءً وَلَهُ قَمِيصٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ وَيَرْتَدِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ.
وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَلَهُ سَرَاوِيلُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ سَرَاوِيلَهُ خَلَا مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَأْتَزِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ.
وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَهُ خُفَّانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسَهُمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرُونَ لُبْسَ الصَّنْدَلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا لُبْسُ الْمِيثَمِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْخُفَّيْنِ، وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِالْعِمَامَةِ، وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَاقِيقِ جُرْذَانَ فَمَاتَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».
وَلَوْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَاللُّبْسِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَإِجَّانَةٍ، أَوْ عِدْلِ بَزٍّ وَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ لُبْسًا، وَلَا تَغْطِيَةً.
وَكَذَا لَا يُغَطِّي الرَّجُلُ وَجْهَهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا.
وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا بِثَوْبٍ وَتُجَافِيَهُ عَنْ وَجْهِهَا، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» جَعَلَ إحْرَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَلَا خُصُوصَ مَعَ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا لَمَّا خَصَّ الْوَجْهَ فِي الْمَرْأَةِ بِأَنَّ إحْرَامَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهَا، فَكَذَا فِي الرَّجُلِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَحْوَالِ الْمُحْرِمِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ هُوَ الْكَشْفُ فِي الرِّجَالِ فَكَانَ السَّتْرُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ،، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِيهِنَّ السَّتْرُ فَكَانَ الْكَشْفُ خِلَافَ الْعَادَةِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ» وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رَوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي وَجْهِهِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ إحْرَامَهَا لَيْسَ فِي رَأْسِهَا إلَّا بِقَوْلِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا أُصْبِغَ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ طِيبٌ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَلَا يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَهُوَ: الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَبِسَتْ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَرَى أَنَّ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، فَقَالَ طَلْحَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مُمَشَّقٌ بِمَغْرَةٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنَّ كَمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَدَلَّ إنْكَارُ عُمَرَ وَاعْتِذَارُ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُمَشَّقَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ أَيْ: مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الْمَغْرَةِ فَيَعْتَقِدُ الْجَوَازَ، فَكَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ عَسَى فَيُكْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَرِهَتْ الْمُعَصْفَرَ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَصْبُوغِ بِمِثْلِ الْعُصْفُرِ كَالْمَغْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ: إنْكَارُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلتَّعَارُضِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْسُولًا.
فَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى صَارَ لَا يَنْفُضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ بِوَرْسٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ قَدْ غُسِلَ وَلَيْسَ لَهُ نَفْضٌ وَلَا رَدْغٌ» وَقَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفُضُ لَهُ تَفْسِيرَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ: رُوِيَ عَنْهُ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ.
وَرُوِيَ لَا يَفُوحُ رِيحُهُ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى زَوَالِ الرَّائِحَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ، وَلَكِنْ يَفُوحُ رِيحُهُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ بَقَاءِ الطِّيبِ، إذْ الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَذَا مَا صُبِغَ بِلَوْنِ الْهَرَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ صِبْغٌ خَفِيفٌ فِيهِ أَدْنَى صُفْرَةٍ لَا تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا الْوَرْسِ، وَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فَكَانَ كَاللُّبْسِ.
وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ وَالصُّوفِ وَالْقَصَبِ وَالْبُرْدِ وَإِنْ كَانَ مُلَوَّنًا كَالْعَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الزِّينَةِ.
وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الطَّيْلَسَانَ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ، وَلَا يَزُرُّهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ الزِّرَةَ مَخِيطٌ فِي نَفْسِهَا، فَإِذَا زَرَّهُ فَقَدْ اشْتَمَلَ الْمَخِيطُ عَلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفِ فَأَشْبَهَ لُبْسَ الْمَخِيطِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ، وَالْإِزَارِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُخَلِّلَ الْإِزَارَ بِالْخِلَالِ، وَأَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مُحْرِمًا قَدْ عَقَدَ ثَوْبَهُ بِحَبْلٍ فَقَالَ لَهُ: انْزِعْ الْحَبْلَ وَيْلَكَ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ فِي عَدَمِ الْحَاجَةِ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَخِيطٍ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَزَّمَ بِعِمَامَةٍ يَشْتَمِلُ بِهَا وَلَا يَعْقِدُهَا؛ لِأَنَّ اشْتِمَالَ الْعِمَامَةِ عَلَيْهِ اشْتِمَالُ غَيْرِ الْمَخِيطِ فَأَشْبَهَ الِاتِّشَاحَ بِقَمِيصٍ، فَإِنْ عَقَدَهَا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَلَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ.
سَوَاءٌ كَانَ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ شَدَّ الْمِنْطَقَةَ بِالْإِبْزِيمِ، أَوْ بِالسُّيُورِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمِنْطَقَةِ: إنْ شَدَّهُ بِالْإِبْزِيمِ يُكْرَهُ، وَإِنْ شَدَّهُ بِالسُّيُورِ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْهِمْيَانِ: إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ اسْتِيثَاقُ النَّفَقَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي نَفَقَةِ غَيْرِهِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْإِبْزِيمَ مَخِيطٌ فَالشَّدُّ بِهِ يَكُونُ كَزِرِّ الْإِزَارِ بِخِلَافِ السَّيْرِ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْهِمْيَانِ فَقَالَتْ: أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك أَطْلَقَتْ الْقَضِيَّةَ وَلَمْ تَسْتَفْسِرْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ فِي وَسَطِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ» وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ اشْتِمَالَ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ عَلَيْهِ كَاشْتِمَالِ الْإِزَارِ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ الْمُحْرِمُ بِالْفُسْطَاطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْقِي عَلَى شَجَرَةٍ ثَوْبًا، أَوْ نِطْعًا فَيَسْتَظِلُّ بِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فُسْطَاطٌ بِمِنًى فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِمَا لَا يُمَاسُّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ، وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ كَذَا هَذَا، فَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ، فَإِنْ كَانَ السِّتْرُ يُصِيبُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَتْرَ وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بِثَوْبٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا فَلَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ ظُلَّةٍ.
وَلَا بَأْسَ أَنْ تُغَطِّيَ الْمَرْأَةُ سَائِرَ جَسَدِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِمَا شَاءَتْ مِنْ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا، أَمَّا سَتْرُ سَائِرِ بَدَنِهَا؛ فَلِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ؛ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِمَا لَيْسَ بِمَخِيطٍ مُتَعَذَّرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَأَمَّا كَشْفُ وَجْهِهَا فَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَاذَوْنَا أَسْدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا رَفَعْنَا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَأَنَّهَا لَوْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا وَجَافَتْهُ عَنْهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا جَافَتْهُ عَنْ وَجْهِهَا صَارَ كَمَا لَوْ جَلَسَتْ فِي قُبَّةٍ، أَوْ اسْتَتَرَتْ بِفُسْطَاطٍ.
وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَتَتَحَلَّى بِأَيِّ حِلْيَةٍ شَاءَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ فِي الْإِحْرَامِ؛ وَلِأَنَّ لُبْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ بَابِ التَّزَيُّنِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الزِّينَةِ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مَا فِيهِ مِنْ الصَّبْغِ مِنْ الطِّيبِ لَا مِنْ الزِّينَةِ، وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الطِّيبِ.
وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِي بَدَنِهَا السَّتْرُ فَيَجِبُ مُخَالَفَتُهَا بِالْكَشْفِ كَوَجْهِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ لَيْسَ إلَّا تَغْطِيَةَ يَدَيْهَا بِالْمَخِيطِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَهُمَا بِقَمِيصِهَا، وَإِنْ كَانَ مَخِيطًا فَكَذَا بِمِخْيَطٍ آخَرَ، بِخِلَافِ وَجْهِهَا.
وَقَوْلُهُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ نَهْيُ نَدْبٍ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ هَذَا الْمَحْظُورِ وَهُوَ: لُبْسُ الْمَخِيطِ فَالْوَاجِبُ بِهِ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: يَجِبُ الدَّمُ عَيْنًا، وَفِي بَعْضِهَا: تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَيْنًا، وَفِي بَعْضِهَا يَجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ عَيْنِ الصِّيَامِ، أَوْ الصَّدَقَةِ، أَوْ الدَّمِ، وَجِهَاتُ التَّعْيِينِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ بِاللُّبْسِ يُوجِبُ فِدَاءً كَامِلًا فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الدَّمُ، لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إنْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَالِارْتِفَاقُ الْقَاصِرُ يُوجِبُ فِدَاءً قَاصِرًا وَهُوَ: الصَّدَقَةُ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ: مِنْ قَمِيصٍ، أَوْ جُبَّةٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ عِمَامَةٍ، أَوْ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ، أَوْ جَوْرَبَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يَوْمًا كَامِلًا.
فَعَلَيْهِ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ لُبْسَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمًا كَامِلًا ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَهِيَ: الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: إنْ لَبِسَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْبَسَ يَوْمًا كَامِلًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، إنْ لَبِسَ نِصْفَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَلْقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ لَبِسَ سَاعَةً وَاحِدَةً.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللُّبْسَ وَلَوْ سَاعَةً ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِوُجُودِ اشْتِمَالِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ، فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ.
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ: اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِاللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِفَاقِ فِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ دُخُولِ اللَّيْلِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ اللُّبْسَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاقٍ نَاقِصٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَذَلِكَ بِاللُّبْسِ فِي كُلِّ الْيَوْمِ، وَلِهَذَا اتَّخَذَ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ لِلنَّهَارِ لِبَاسًا وَلِلَّيْلِ لِبَاسًا، وَلَا يَنْزِعُونَ لِبَاسَ النَّهَارِ إلَّا فِي اللَّيْلِ فَكَانَ اللُّبْسُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا قَاصِرًا، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَاحِدٍ، وَمِقْدَارُ الصَّدَقَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَكُلُّ صَدَقَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَوْمًا إلَّا سَاعَةً فَعَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ أَيْ: مِنْ قِيمَةِ الدَّمِ لِمَا قُلْنَا.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُقَدَّرَةَ لِلْمِسْكِينِ فِي الشَّرْعِ لَا تَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالْفِطْرِ، وَالظِّهَارِ.
وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ لَكِنَّهُ زَرَّهُ عَلَيْهِ أَوْ زَرَّ عَلَيْهِ طَيْلَسَانًا يَوْمًا كَامِلًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ، إذْ الْمُزَرَّرُ مَخِيطٌ.
وَكَذَا لَوْ غَطَّى رُبْعَ رَأْسِهِ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يُغَطِّيَ الْأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا أَقُولُ: حَتَّى يُغَطِّيَ رَأْسَهُ كُلَّهُ.
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ تَغْطِيَةَ الْأَقَلِّ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ، كَحَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ وَعَلَى هَذَا إذَا غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبْعَ وَجْهِهَا وَكَذَا لَوْ غَطَّى الرَّجُلُ رُبْعَ وَجْهِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَلَوْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّغْطِيَةِ.
وَلَوْ عَصَبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ لِعِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ بَدَنِهِ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الشَّدَّ عَلَيْهِ يُشْبِهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ، هَذَا إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ يَوْمًا كَامِلًا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ.
فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيْ: الْكَفَّارَاتُ شَاءَ الصِّيَامَ، أَوْ الصَّدَقَةَ، أَوْ الدَّمَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: احْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْحَلْقِ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هاهنا دَلَالَةً.
وَقِيلَ: إنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَيَجُوزُ فِي الطَّعَامِ التَّمْلِيكُ، وَالتَّمْكِينُ وَهُوَ: طَعَامُ الْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي الصِّيَامِ التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّوْمِ فِي النَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَذَبْحِ الْمُتْعَةِ إلَّا إذَا ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرُ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ فَيَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ الطَّعَامِ وَيَجُوزُ الصَّوْمُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ.
وَكَذَا الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيه، إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا أَنَّ نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِحْصَارِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا وَلَمْ يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ إلَّا بِالْفَتْقِ، وَفِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ، وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَيُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفَتْقُ، وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ.
وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَيَسْتَوِي أَيْضًا مَا إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَلَا حَظْرَ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْإِكْرَاهُ عِنْدِي وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ.
وَقَوْلُهُ: فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، وَفِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فِي ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ «دُعَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا»، وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ: الْقَمِيصَ، وَالْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ.
وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ، أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً، أَوْ اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أَوْ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَهُمَا مَعَ الْقَمِيصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لِلُبْسِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ.
وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَدَامَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ.
وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ، وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ، فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً أُخْرَى.
وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا كَانَ بِهِ قَرْحٌ أَوْ جُرْحٌ، اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ بِالطِّيبِ أَنَّهُ مَا دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ بَرَأَ ذَلِكَ الْقَرْحُ أَوْ الْجُرْحُ، وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ أَوْ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَهَا بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أَوْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ فِي وَقْتٍ، وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحُمَّى، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ الْحُمَّى وَأَصَابَتْهُ حُمَّى أُخْرَى عَرَفَ ذَلِكَ، أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَجَاءَهُ مَرَضٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ وَهُوَ الْجِمَاعُ، بِأَنْ جَامَعَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ جُرِحَ لَهُ قَرْحٌ، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ وَهُوَ يُدَاوِيهِ بِالطِّيبِ، فَخَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ آخَرُ، وَالْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَبْرَأْ فَدَاوَى الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْرَأْ فَالضَّرُورَةُ بَاقِيَةٌ، فَالْمُدَاوَاةُ الثَّانِيَةُ حَصَلَتْ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَيْهَا الْأُولَى، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ فَلَبِسَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَنَزَعَ ثُمَّ عَادَ فَعَادَ أَوْ كَانَ الْعَدُوُّ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ فَكَانَ يَلْبَسُ السِّلَاحَ، فَيُقَاتِلُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ وَيَجِيءُ عَدُوٌّ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ وَاحِدٌ، وَالْعُذْرُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ لَهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا، لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ، فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَيَّامًا فَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَلْبَسُهُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى التَّرْكِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا فَأَرَاقَ دَمًا، ثُمَّ دَامَ عَلَى لُبْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ مُبْتَدَأٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَخِيطِ فَدَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا كَامِلًا يَلْزَمُهُ دَمٌ.
وَلَوْ لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ الْتَحَقَ اللُّبْسُ الْأَوَّلُ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا آخَرَ مُبْتَدَأً إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الثَّانِي فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بَطَلَ الْأَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا ثَانِيًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى، كَمَا إذَا جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ، فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً فَيَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النَّزْعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ أَوْ لَا وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ إلَّا إذَا تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْوَرْسِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ.
وَكَذَا إذَا لَبِسَ الْمُعَصْفَرَ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ عِنْدنَا، إذْ الْمُعَصْفَرُ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَعَلَى الْقَارِنِ فِي جَمِيعِ مَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا مَا عَلَى الْمُفْرِدِ مِنْ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، فَأَدْخَلَ النَّقْصَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.